top of page

  سينما المرأة في ٣ آلاف ليلة

    مقالة نقدية  

تمارا أبو لبن

حكاية مثل كل الحكايات ليست غريبة ولا مختلفة، وليست ألف ليلة وليلة بقصصها الخيالية العجيبة بل  ٣٠٠٠ ليلة، تروي حكاية ليال الشابة الفلسطينية

التي تختارها المخرجة مي المصري لتنقل لنا حياة السجن بعيني امرأة .

 

الفكرة ابتدأت من الثمانينيات عندما تتعرف مي على أسيرة فلسطينية تلد ابنها داخل سجون الاحتلال، فتحكي لمي عن عذابات السجون وألم المخاض ومشاعر الأمومة في الزنازين فتظل الفكرة في بالها حتى تقرر انتاجها بعد حوالي ٣٠ عاما.

فهذا ليس بغريب على مي، فهي تلك المخرجة التي كانت تلاحقنا أطفالا في مخيم الدهيشة في الانتفاضة الثانية، تجلس معنا وتتحدث إلينا فتشعر بقصصنا التي عرفت السبيل إلى القهر وتحولها إلى لغة سينمائية. أنا كنت أحد شخصيات فيلمها أحلام المنفى الوثائقي، اختارتني انا وصديقتي منار ونداء ومعتصم وآخرون من مخيم الدهيشة للاجئين لتقص للعالم قصة اللجوء وأحلام الأطفال في المنفى. آمالنا آنذاك نحن وأطفال مخيم شاتيلا في لبنان عندما التقينا على الحدود وتعرفنا على بعضنا لنتشارك التجارب الأليمة مستخدمين براءة تعابيرنا وانفعالاتنا.

هذه مي التي عهدناها وعرفناها ليس كمخرجة أفلام بل كمثال للمرأة الفلسطينية الطموحة المنتمية لبيئتها بكل ما تملك من أحاسيس، وهي التي أصبحت بعد ذلك مثلنا الأعلى. لم تفارقنا مي طوال حياتنا ظلت تطمئن علينا وتسأل عن أخبارنا وتدعمنا وتسعى لأن نكون ما نحلم.

ليال الشخصية الرئيسية في الفيم الروائي الأول لمي والتي تعتقلها القوات الإسرائيلية عند أحد الحواجز ليلا، لتبدأ رحلة المعاناة، فتتهم بأنها ساعدت شاب في عملية ضد الاحتلال فيحكم عليها بالسجن ٨ سنوات، فتلتقي بباقي الشخصيات الأخرى في الفيلم وتبدأ الرواية.

في بداية الفيلم يتصاعد التشويق والإثارة من خلال التصوير والنقلات المدروسة في مشهد القبض على ليال وفي داخل السيارة العسكرية وما بعد ذلك حتى تأسس المخرجة لعلاقة ليال بباقي الشخصيات وتبدأ هنا توترات الأحداث، فتكتشف ليال بأن عليها أن تجابه عناصر الأمن والسجينات الإسرائيليات حيث توضع في البداية بين السجينات الجنائيات الإسرائيليات. ومن ثم عليها أن تتحمل تخاذل زوجها الذي يتنصل عن مسؤوليته ويلومها وتحديدا عندما يعلم بأنها حامل فيقرر أن عليها أن تسقط الجنين، ويدعها وحيدة تجابه كل ما يحدث لها من آلام الحمل وعذابات السجن ويفوق ذلك ألمها النفسي لنذالة زوجها وسلبيته، فينشد الجمهور لقصة ليال ويتحد معها، فقد نرى أنفسنا في موقف أو أخر.

تتحسن أوضاع ليال عندما تنقل إلى سجن النساء العربيات، وهنا تبدأ حكاية أخرى في التعرف على قصة كل واحدة من الشخصيات ومأساتها فنكره البعض تارة ونحبهن تارة أخرى، وتنشأ التحالفات وخططهم النضالية ضد أمن السجون وتتدفق المشاعر في تجسيد مي للحظات الإنسانية والتي تبلغ ذروتها بعد إنجاب ليال لأبنها نور وتطور علاقتهما معا خلف الجدران.

ألوان الجدران  الرمادية والسوداء تدخل المشاهد في أجواء السجن القاتمة وتعقيدات الشخصيات وانعدام الأفق، ويأسس لتراجيديا مقبلة.

ومن ناحية الشكل الفني استخدمت مي أسلوب أقرب ما يكون إلى عالمها الوثائقي من حيث حركة الكاميرا والإضاءة فالفيلم ينتمي إلى المدرسة الواقعية مع العلم أن بعض اللقطات كانت تحمل كثيرا من الرمزية، مثل لقطات أسلاك السجن وقضبانه وانتقال أشعة الشمس فيها ومرور الوقت الذي ينهش أعمارهن ولحظات حياتهن. استخدمت مي أيضا خيال الظل كمشاهد مسرحية للأطفال، حيث تلاعب ليال الأم ابنها فلا يشعر بأنه محبوس، حيث أن جل أمانيها أن تجعله سعيدا.

واستخدمت مي رمز الطائر دليل الحرية فتلاعب الأم طفلها دائما بالطائر الخشبي أو  برسم طائر على جدران السجن. الطفل نور الذي يغير أجواء السجن الحزينة إلى أجواء أكثر فرحا فتشعر النساء بأنهن أمهات وتسمينه نور، فقد ولد في العتمة ليكون اسمه نورا فيعبر عن الأمل بالحرية وانتهاء ظلام السجن.

تميل مي إلى استخدام هذا النوع من الرموز ففي فيلم أحلام المنفى رأت المخرجة أن تركز على العصفور في بداية الفيلم وفي مشاهد متنوعة أخرى أيضا، فتبدأ منى (الشخصية الرئيسية) حديثها في الدقيقة الثانية في الفيلم بأنها تتمنى أن تكون عصفوراً وأن المخيم ـ أي مخيم شاتيلا في لبنان ـ هو قفص العصفور.

وفيما يخص الصراعات فقد يعتبر أحد أهم الصراعات في فيلم 3 آلاف ليلة صراع المصلحة الشخصية مقابل المصلحة العامة حيث يحاول أمن السجون استغلال كون ليال أماً بابتزازها بابنها، فأما الخيانة أو حرمانها من ابنها، وتظهر ليال تمسكها بولدها وأمومتها وعدم تخليها أيضا عن الروح الوطنية، وتعود إدارة السجون لتأخذ منها ابنها لأنها أصرت على الاستمرار في الإضراب عن العام مع باقي السجينات، ويكاد يكون ذلك أصعب مشهد كسلخ الروح من الجسد.

ويظهر الفيلم بأن السجينات لسن ملائكة والظروف الصعبة التي تعيشها كل واحدة  تجعل منها شخصية شرسة وتتباين الشخصيات بصفاتها وخياراتها، فتتحدث إحداهن وهي رحاب عن الخلاص الفردي وتخون صديقاتها الأسيرات حتى تنال التحرر. في حين أن سناء المناضلة وهي من لاجئي لبنان تظهر قاسية ومتشككة في تصرفات رحاب وليال حتى تظهر الحقيقة فيتكشف جزءا طيبا من شخصيتها التي تقسو أحيانا بسبب روحها النضالية التي ترفض الخيانة ولا تقبل الوسط.

 

أحد الأمور التي ميزت الفيلم قلة استخدام الموسيقى، فقد اعتمدت مي على المؤثرات الصوتية وبحذر وهذا يعيدنا إلى ما ذكرناه في السابق عن واقعية الأسلوب، حيث لا تريد المخرجة اقحام المشاهد بمشاعر معينة.

وبالرغم من ذلك فقد انتابتني مشاعر قوية جعلتني أبكي في بعض المشاهد لأن الأحداث حقيقية والشخصيات كذلك، إضافة إلى تجسيد القضية الفلسطينية برمزية السجون وألمها، فتكاد لا تخلو أي أسرة فلسطينية من  تجربة اعتقال أحد أفرادها. فما بالك إذا كانت القضية مقدمة بأعين امرأة مبدعة. فمي المصري دائما ما تحب إضافة لمستها النسوية على أفلامها فتميل إلى تجسيد حياة النساء والأطفال كونها أم، حيث أن الأطفال والنساء يخاطبون مشاعرنا من الداخل ونحن بحاجة إلى هذا البعد في اللغة السينمائية.

بعد انتهاء عرض الفيلم في أحد القاعات في مدينة بيت لحم ظل الجمهور يصفق وطلب من الأسرى السابقين أن يعلقوا على الفيلم، فعلقت رولا أبو حدو وهي سجينة في فترة الثمانينيات  بأنها رأت مثل هذه المواقف عندما كانت في الأسر كما وأن الشخصيات سناء والجدة تحديدا هما شخصيتان تشعر رولا بأنها التقت بهما في السجن، ولكنها علقت على مساعدة السجينة الإسرائيلية لليال بأن مثل هذه المواقف لا تحدث في السجون بل على العكس "فإن الإسرائيليات يزدن من إذلالنا واهانتنا"، وأضافت ان الفيلم قاس ومشاهده تذكرها بلحظات صعبة لا تريد تذكرها، ولكن على العالم أن يعلم عن هذه القصص بأسلوب فني بعيد عن الاخبار والأرقام.

نهاية الفيلم تتجلى بتحرر ليال من قيود الزنازين ومن قيود زوجها فقد دخلت بشخصية ضعيفة خائفة وتخرج قوية بتطور كبير حدث على شخصيتها خلال أحداث الفيلم، فتركض كالفراشة نحو ابنها وأمها التي ظلت إلى جانبها تدعمها معنويا في كل زيارة. ويرتفع صوت غناء مكادي نحاس  "يا ظلام السجن خيم نحن لا نخشى الظلام ليس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى" .

bottom of page