top of page
شيزوفرينيا الشباب في فلسطين ما بين
العالم الافتراضي والواقعي

 

تمارا أبو لبن  ومحمد القيسي

 

يعتبر انتشار التكنولوجيا في فلسطين مظهرا من أهم مظاهر الانفتاح على العالم، ولا سيما ان استخدام الانترنت أصبح ضرورة من ضروريات المجتمع في وقتنا الحاضر. ويعتبر الشباب في فلسطين من أهم مستخدمي هذه التكنولوجيا ومن أهم مروجيها أيضا، ولكن هل  استخدام الانترنت المتزايد في فلسطين يعني زيادة في التنمية والمشاركة وتحديدا فيما يخص فئة الشباب؟ فلا يكاد يخلو اي منزل من عناصر التكولوجيا كالهواتف الذكية واجهزة الحاسوب او اللابتوب وما إلى ذلك. والمتابع لاشكال تطور استخدامات الانترنت في السنوات الماضية يلاحظ ان مواقع التواصل الإجتماعية هي الأكثر استخداما وانتشاراً على شبكة الإنترنت كالفيسبوك والانستغرام واليوتيوب وغيرها، لما تمتلكه من خصائص تميزها عن المواقع الإلكترونية مثل اعتمادها الكبير على التفاعلية، بالرغم من الانتقادات الشديدة التي تتعرض لها الشبكات الإجتماعية على الدوام وخصوصاً موقع (الفيس بوك)، والتي تتهمه تلك الانتقادات بالتأثير السلبي على العلاقات الأسرية مثلا، فإن هناك من يرى فيه وسيلة مهمة للتطور والتواصل بين المجتمعات، وتقريب المفاهيم والرؤى مع الآخر، والإطلاع والتعرف على ثقافات الشعوب المختلفة، إضافة لدوره الفاعل والمتميز كوسيلة اتصال ناجحة في الثورات والانتفاضات الجماهيرية مؤخرا.

لا يغفل احد مطلع على تطور الاحداث في العالم العربي الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في طرح العديد من القضايا التي تؤرق الشباب ومشاركتها على نطاق واسع كما حدث في تونس ومصر مثلا. وكأن هذه القضايا كانت في انتظار أداه كوسائل التواصل الاجتماعي كمتنفس وكمساحة بعيدة عن دكتاتورية الأنظمة العربية في حينها. وسواء اختلف البعض في تحديد دور مواقع التواصل الاجتماعي في ما سمي ثورات الربيع العربي وقوة تأثيره من عدمه إلا أن المؤكد أن قطاعات كبيرة من الشباب العربي استخدمت تلك المواقع في التعبير عن الغضب من حال أنظمتهم من خلال اتصالهم ببعضهم وحشد اعداد كبيرة من الشباب لدعم قضايا هامة مثل الحرية والعدالة الاجتماعية كما  في مصر. بغض النظر عن نتائج الثورات ولكنها اوصلت اصوات الشباب للعالم، ولكن على ما يبدو فان الشباب الفلسطيني ونظرا للسياق الفلسطيني المختلف لوجود الاحتلال ووجود ما يسمى دولة مع عدم وجود مقومات الدولة جعل من استخدام الشباب لوسائل التواصل الاجتماعي امرا يحتاج الى دراسة، ففي الدول العربية الاخرى الشاب الجامعي المتعلم يستطيع تحديد التحديات التي يواجهها، ولكن في المجتمع الفلسطيني فان الشباب يواجهون تحديدات تتقاطع وتختلف جغرافيا وزمنيا.

وفي وجهة نظر اخرى، يرى علماء النفس مثل جيرالد بلوك (2008) "بأن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى نوع من أنواع الإدمان الذي يقود إلى العزلة، حيث انها تعطيهم فرصة للهروب من مجتمعهم". فالمستخدمين يتعاملوا مع عالم افتراضي مثل عالم الاحلام يختار فيه الشخص الاسم الذي يحبه ويختار الاصحاب الذين يحبهم ويستخدم الصور والكلمات التي تتفق مع الشكل الذي رسمه لنفسه والذي يرتقي لتطلعاته، كما وعالم الأحلام إن صح التعبير. واذا ما عملنا مسح سريع وعشوائي لقضية استخدام اسماء مستعارة على شبكة التواصل الاجتماعي فاننا سوف نلحظ اسماء غريبة مثل: الكوفية الحمراء، ابن الياسر، زهرة اللوتس، همسات المطر، الشهيد الحي، فارس الكوفية وغيرها من الاسماء التي تدل على تواجد اصحابها في عالم من النرجسية  مختلف عن عالمهم. وهذا قد يؤكد على دقة مصطلح العالم الافتراضي، فهو ليس مرآة للمجتمع  تنقله كما هو على شاشات الهواتف والحواسيب. ونلاحظ محاولات المتصفحين او المشاركين على هذه الشبكات الظهور دائما بمظهر الشخص المثالي والشخص الصالح الفاضل، وهذه يعود أيضا الى ان المستخدم يعرض ما يتمنى وما يتطلع اليه في الغالب.

يؤثر التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي أيضا على رؤية المستخدم لنفسه وليس فقط لمجتمعه، حيث تضع تلك المواقع مستخدميها تحت المجهر، و تجعلهم في محاولة دائمة للظهور بصورة مثالية وتقديم أنفسهم للعالم الافتراضي بصورة مغايرة للواقع، عن طريق نشر صورهم و أخبارهم وما يحدث في حياتهم من أحداث هامة وينتظرون الحكم عليها من قبل أصدقائهم وهو ما يؤدى إلى تزايد القلق والترقب الدائم للحكم الذي يحكمه الأخرون على ما هو منشور على الصفحة الشخصية للمستخدم وهو ما يشعره بالأمان والأهمية الوهمية.

وفي دراسة نشرتها المجلة الأميركية للطب العصبي American Journal of Psychiatry في عددها الأخير. يرى د. جيرال بلوك من جامعة أوريغون  في الولايات المتحدة أن الاستخدام المتكرر لانترنت قد يصل الى مرحلة الادمان وهذه الظاهرة تعرف باضطراب الاستخدام المفرط للانترنت والمرتبط غالباً بفقدان الإحساس بالوقت وإهمال القضايا الأساسية الأخرى كالأكل والنوم؛ والانسحاب من الحياة الاجتماعية والذي يرافقه إحساس بالغضب أو التوتر أو الكآبة عندما لا يكون الكومبيوتر متوفراً، وقد يؤدي الى انعكاسات سلبية والتي تشمل الكذب وانخفاض مستوى الإنجاز في العمل والعزلة الاجتماعية والتعب. فبحسب رأي بلوك فإن هذه الأمور تتشكل عبر الممارسة المفرطة لألعاب الكومبيوتر والاهتمام المفرط بالمواقع الجنسية وفي إرسال الرسائل الالكترونية والرسائل النصية.

وهذا ليس بالأمر البعيد اذا ما قسناه بواقع الشباب الفلسطيني، فهنالك فقدان للشعور بالوقت، حيث قد يجلس شاب في اوج طاقته للعطاء والابداع امام شاشة جهازه النقال لساعات دون اي تفاعل مع محيطه بشكل مباشر، فلا يقوم بواجباته تجاه الاسرة مثلا ولا يشعر باهمية التفاعل مع الاخرين المحيطين به لانه مشغول بما هو اهم وهو صورته على مواقع التواصل. وقد يقول البعض بأن البطالة والفراع وانعدام الافق هي ما تجعل الشباب تجلس على الانترنت لساعات، ولكن هي في الواقع علاقة تبادلية بمعنى انك اذا جلست تضيع وقتك لساعات لن تحصل على فرصة عمل، واذا كنت تعاني من البطالة فقد تضيع وقتك على وسائل التواصل الاجتماعي، والاخذ بالمسلمات والاستسلام لامضاء الوقت هو استنزاف للشباب وهدر للطاقات والموارد البشرية الهائلة.

في حين ان قضية العزلة الاجتماعية هي ناحية اخرى قد تشمل قضايا عدة متفرعة، منها انشاء شخصيات كما اشرنا سابقا تتميز بالمثالية او انشاء شخصيات مستعارة، قد يجعل الانسان يشعر بالفصام والإكتئاب، وعدم القدرة على التواصل المباشر مع الاخرين بشخصيته الطبيعية وهذا طبعا في حالة الادمان على الانترنت او ما يسمى الاستخدام المفرط له. فبالرغم من ان بعض الاصوات تؤيد استخدام الشباب لشبكات التواصل الاجتماعي لانها تساعد على التحرر من النظم الدكتاتورية كونها مساحات مفتوحة، هنالك اصوات اخرى تقول بأن سلبياتها اكثر من ايجابياتها، كما وتصفها بعض الصحف الغربية بأنها تحرض على العنف في العالم العربي وفيما يسمى الشرق الاوسط.

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
وسائل التواصل الاجتماعي والحراك الشبابي:
 

وبحسب دراسة قامت بها الباحثة رهام عودة ٢٠١٤ بعنوان  "استخدام مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الحراك الشبابي من أجل إنهاء الانقسام الفلسطيني"، فإنها تؤكد على أن السنوات الخمس الاخيرة تميزت بانتشار ظاهرة التحركات الشبابية في مختلف مناطق تواجد الشعب الفلسطيني، وقد تصدرت قضية انهاء الانقسام الفلسطيني جدول اعمال القوى الشبابية منذ ٢٠١١، وقد وظفت تلك المجموعات مواقع التواصل الاجتماعي من اجل عمل حملات مناصرة ودعم وجهة نظرهم مستخدمين شعار الشعب يريد انهاء الانقسام، وقد برز دور الشباب وبات اكثر وضوحا بالرغم من الفراغ السياسي والتنظيمي.

كما وترى رهام عودة بأن وسائل التواصل اجتماعي كانت تقتصر على التواصل والتسلية والترفيه ولكن طرأ تحول  على استخداماتها لتكون أداه للتنظير والتنظيم والقيادة والى وسيلة لنقل الاحداث ومتابعتها، ولا تقتصر ايجابيات الشبكات الاجتماعية بحسب رأي عودة على المشاركة السياسية بل تتعداها الى العمل التطوعي والمجتمعي من خلال انشاء صفحات تشجع على ذلك من قبل الشباب.

وبحسب منتدى شارك الشبابي عام 2014 يرى نحو ( 34.5% ) من الشباب الفلسطيني المستطلعة أراءهم أن وسائل الاتصال الاجتماعي نجحت في التأثير على صناعة القرار السياسي في فلسطين. ومن ملاحظاتي لتحليلات العديد من الكتاب والمحللين فان فئة كبيرة ترى في مواقع التواصل الاجتماعي مساحة نجح من خلالها الشباب في حملات الدعم والمناصرة، لان مميزات هذه الشبكات تتلخص في: سهولة الاستخدام من قبل الشباب، كسر كل الحواجز الجغرافية، التفاعلية، بمعنى القدرة على الكتابة والمشاركة والرد والتقييم والمشاهدة وارسال الصور والفيديوهات واستقبالها، تنوع الاستخدامات: التعلم والتسلية والتواصل وغيرها، اضافة الى  توفير الوقت والجهد والمال.

 

ان سهولة استخدام هذه الشبكات تجعل من مشاركة الاراء عليها امر في غاية السهولة، في حين ان نزول الشباب الى الشارع ومحاولة المشاركة السياسية والاجتماعية واتخاذ القرارات في الشارع الفلسطيني يجعل الشباب بذلك يصدم بأنظمة متحجرة قد لا تتقبل الاخر وتحديدا اذا كان شاب صغير السن يطالب بتغيير حقيقي. إضافة لوجود المحتل الذي يتعامل بسياسة الابارتهايد وإلغاء الاخر بطريقة وحشية وعنيفة قد تكون حاجزا ما بين كسر الجمود في الداخل الفلسطيني ومقارعة الاحتلال من جهة اخرى، وحتى ان هذا التفاعل اصبح ينتقل لصفحات التواصل الاجتماعي. وما اصبح يثير الجدل هو ان ما يعبر عنه الشباب في شبكات التواصل الاجتماعي وخاصة الفيسبوك قد اصبح دليل ادانة لهم وسبب في اعتقالهم من قبل قوات الاحتلال. ومن جهة اخرى فإن أجهزة الامن الفلسطينية كانت قد اعتقلت اشخاص عبروا عن ارائهم على صفحاتهم على الفيسبوك والتي تختلف مع سياسة النظام الموجود حاليا. وبالتالي تصبح هذه المساحات مراقبة مخابراتيا بعد أن كانت حيزا يتيح للشباب حرية التعبير.

ومن التحديات الحقيقية التي تواجه الشباب، عدم القدرة على قياس مدى تفاعل الناس الحقيقي مع الحملات التي تقوم بها، فقد يتفاعل الناس ويشاركون على الشبكات الالكترونية ولكن لا يتفاعلون على ارض الواقع، وهذا يحدث في الكثير من الاحيان عند نشر الدعوات لتظاهرات مثلا او حتى لانشطة مجتمعية، فقد تكون المشاركة على الانترنت كبيرة ولكن عند حدوث التظاهرة لا يأتي أحد، وهذا متصل بما سبق واشرنا اليه في فقرة سابقة عن الازدواجية والظهور بمظهر الانسان الفاضل الذي ينتمي الى مجتمعه ولديه شعور بالوطنية، وهو يشعر بأنه مراقب وتحت المجهر في شبكات التواصل ولكن لا يشارك مجتمعيا بشكل حقيقي.

 

 

العمل الحزبي وانخراط الشباب في العمل السياسي:
 

في العديد من الدراسات كان هنالك إشارة إلى تردي وتراجع ثقة الشباب في الاحزاب السياسية الموجودة في داخل فلسطين. وكان هنالك تراجع ايضا في النظر للدولة الفلسطينية على انها حلم قريب المنال. ففي ظل التخبطات في الواقع العربي وبعد فشل الثورات العربية التي كانت تسمى بالربيع العربي، وبعد الحروب الوحشية المتتالية على قطاع غزة والانتهاكات اللامتناهية في الضفة والقدس وحتى أراضي ال ١٩٤٨ أصبح الشباب يشعرون بضياع وخيبة أمل كبيرة.

ففي استطلاع قامت به مؤسسة شارك الشبابية فقد عبر 73% من غالبية الشباب عن عدم انتمائهم لأي من الفصائل السياسية، وعن خيبة أملهم وفقدان ثقتهم بهذه الفصائل خاصة لعدم قدرتها على إنهاء حالة الانقسام وعدم وجود خطاب تحرر موحد وحقيقي، وانشغال كل منها في مصالحها الضيقة، وعدم إيلاء المجتمع وخاصة الشباب أولوية في برامجها باستثناء المنظمات الشبابية.

لقد بلغت نسبة العضوية في الاحزاب السياسية في فلسطين حوالي 38% اي ان هناك انخفاض في عضوية الشباب في مختلف المنظمات المجتمعية. واعتبر الشباب وخاصة في القدس أن انخراطهم في غالبية النشاطات السياسية والمجتمعية يرجع لرغبتهم في مقاومة الاحتلال بغض النظر عن درجة ثقتهم بالمؤسسات التي يعملون من خلالها. (تقرير شارك، 2013)

واذا ما ربطنا تلك الارقام بحقيقة انخراط الشباب فعليا في العمل السياسي او الحزبي في الجامعات او المدارس او حتى في المشاركة في المسيرات والاحتفالات الوطنية لربما يكون هنالك تراجعا ملحوظ وان كان مازال حراك شبابي مقرون بالهبة الجماهيرية الحالية إلا انه يبقى في اطار ردود الفعل الفردية والمحدودة جغرافيا وديمغرافيا بفئة معينة من الشباب. وبالتالي اذا ما اردنا ان نقارن نسبة الحراك السياسي على ارض الواقع معه على المساحات الالكترونية من مشاركات لصفحات سياسية او مقالات تعبر عن الشارع والنقم على الاحتلال فسنجد ان معظم الشباب الفلسطيني مهتم بهذه القضايا الا انهم ليسوا مشاركين فعليا على الارض وفي الميادين.

في دراسة مهمة للدكتور تيسير عبدالله بعنوان "استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وعلاقتها بالاغتراب السياسي لدى طلبة الجامعات الفلسطينية" فقد خلص إلى ان هناك علاقة طرديه ما بين إستخدامات شبكات التواصل الاجتماعي والمشاركة السياسية لدى طلبة الجامعات الفلسطينية وكذلك علاقة طردية بين استخدام الشبكات والوعي بالقضايا الوطنية وسوء الخطاب السياسي. وعلى الرغم من ذلك إلا ان هذا الوعي الذي تشكل لدى الشباب خلق لديهم موقفا امام انخراطهم في العمل الوطني وعزوفا عن العمل الوطني المنظم ضمن الاحزاب السياسية لقلة الثقة بها وهذا ما تدعمه نتائج مؤسسة شارك في بحثهم 2015.

فاذا ما اردنا تحليل الشهور الأخيرة وما سمي بالهبة الجماهيرية التي عايشها الشباب الفلسطيني لحظة بلحظة، فانها قد تكون نتيجة لكل ما ذكرناه عن طبيعة الحالة الفلسطينية المتشرذمة وانهاك الاحزاب وقلة حيلتها امام تعقيدات الواقع الفلسطيني، وبالتالي عدم قدرتها على استيعاب احتياجات الشباب الفلسطيني من نشد للتحرر ومجابهة تحديات الاحتلال. مما ادى الى ابتعاد الشباب عن الحزب وعن العمل الحزبي المؤطر سياسيا مما يجعل جيل الشباب ينشد ضالته مرة اخرى على صفحات الفيسبوك لقدرته على التنفيس هناك والتعبير واختيار المجموعات الاكثر استيعابا لرأيه وطرق اكثر فردية واكثر احتواءا لمشاعر الاغتراب لديه والتي تستطيع ان تعكس افكارهم بعيدا عن الحزب السياسي او العمل الوطني الحقيقي في الميدان.

من جريدة القدس
bottom of page